فصل: الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك:

وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء ولا بد فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المرؤة التي تتخلق بها الملوك والأشراف وأما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردا وقبولا فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه وهو رب الأولين والآخرين.

.الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع:

التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغنى والفقير والسلطان والسوقة إذ في ذلك نفاق سلعته وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بإعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن العالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة وهم الأقل وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعة أو كسادها وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحا وأكفل بحوالة الأسواق لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها ويعز وجودها وإذا قلت وعزت غلت أثمانها وأما إذا كان البلد قريب المسافة والطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها وبهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالا لبعد طريقها ومشقته واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس فتجد سلع بلاد السودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم فتعظم بضائع التجار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثروة من أجل ذلك وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة أيضا وأما المترددون في أفق واحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السلع وكثرة ناقليها {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.

.الفصل الثالث عشر في الاحتكار:

ومما اشتهر عند قوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران وسببه والله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطرارا فتبقى النفوس متعلقة به وفي تعلق النفوس بما لها سر كبير في وباله على من يأخذه مجانا وفعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجانا فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سمين في العذر فهو كالمكره وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا ياختيار وحرص ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه والله تعالى أعلم وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليلي وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق مليا ثم قال: من مكس الخمر فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراما فأختار منها مالا تتابعه نفس معطيه والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا وهو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه ولا متعلقة به نفسه وهذه ملاحظة غريبة والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور.